فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأيًا ما كان فقولهم {إِنَّا لَذَائِقُونَ} هو قول ربهم عز وجل ووعيده سبحانه إياهم، ولو حكى كما قيل لقيل إنكم لذائقون ولكنه عدل إلى لفظ المتكلم لأنهم متكلمون بذلك من أنفسهم.
ونحوه قول القائل:
لقد زعمت هوزان قل مالي ** وهل لي غير ما أنفقت مال

ولو حكى قولها لقال قل مالك ومنه قول المحلف للحالف احلف لأخرجن ولتخرجن الهمزة لحكاية لفظ الحالف والتاء لإقبال المحلف على المحلف.
وقال بعض الأجلة: قول الرب عز وجل هو قوله سبحانه وتعالى: {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] والربط على ما تقدم أظهر.
{فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)}.
{فَإِنَّهُمْ} أي الفريقين المتسائلين، والكلام تفريع على ما شرح من حالهم {يَوْمَئِذٍ} أي يوم إذ يتساءلون والمراد يوم القيامة {فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ} كما كانوا مشتركين في الغواية.
واستظهر أن المغوين أشد عذابًا وذلك في مقابلة أوزارهم وأوزار مثل أوزارهم فالشركة لا تقتضي المساواة.
{إِنَّا كَذَلِكَ} أي مثل ذلك الفعل البديع الذي تقتضيه الحكمة التشريعية {نَفْعَلُ بالمجرمين} أي بالمشركين؛ لقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ} بطريق الدعوة والتلقين {لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ} عن القبول.
وفي إعراب هذه الكلمة الطيبة أقوال.
الأول: أن يكون الاسم الجليل مرفوعًا على البدلية من اسم لا باعتبار المحل الأصلي وهو الرفع على الابتداء بدل بعض من كل وإلا مغنية عن الربط بالضمير.
وإذا قلنا أن البدل في الاستثناء قسم على حدة مغاير لغيره من الإبدال اندفع عن هذا الوجه كثير من القيل والقال وهو الجاري على ألسنة المعربين والخبر عليه عند الأكثرين مقدر والمشهور تقديره موجود، والكلمة الطيبة في مقابلة المشركين وهم إنما يزعمون وجود آلهة متعددة ولا يقولون بمجرد الإمكان.
على أن الوجود في هذا المقام يستلزم نفي الإمكان وكذا نفي الامكان عمن عدان عز وجل يستلزم ثبوت الوجود بالفعل له تعالى.
وجوز تقديره مستحق للعبادة ونفي استحقاقها يستلزم نفي التعدد لكن لا يتم هذا التقدير على تفسير الإله بالمستحق بالعبادة كما لا يخفى.
واختار البازلي تقدير الخبر مؤخرًا عن إلا الله بناء على أن تقديره مقدمًا يوهم كون الاسم مستثنى مفرغًا من ضمير الخبر وهو لا يجوز عند المحققين وأجازه بعض وهو القول الثاني، والثالث ونسب إلى الكوفيين أن إلا عاطفة والاسم الجليل معطوف على الإله باعتبار المحل وهي عندهم بمنزلة لا العاطفة في أن ما بعدها يخالف ما قبلها إلا أن لا لنفي الإيجاب وإلا لإيجاب النفي، والرابع أن الاسم الكريم هو الخبر ولا عمل لها فيه على رأي سيبويه من أن الخبر مرفوع بما كان مرفوعًا به قبل دخولها فلا يلزم عملها في المعارف على رأيه وهو لازم على رأي غيره، وضعف هذا القول به وكذا بلزوم كون الخاص خبرًا عن العام.
وكون الكلام مسوقًا لنفي العموم والتخصيص بواحد من أفراد ما دل عليه العام لا يجدي نفعًا ضرورة أن لا هذه عند الجمهور من نواسخ المبتدأ والخبر، والخامس أن إلا بمعنى غير وهي مع اسمه عز اسمه صفة لاسم لا باعتبار المحل أي لا إله غير الله تعالى في الوجود، ولا خلل فيه صناعة وإنما الخلل فيه كما قيل معنى لأن المقصود نفي الألوهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه وعلى الاستثناء يستفاد كل من المنطوق وعلى هذا لا يفيد المنطوق إلا نفي الألوهية من غيره تعالى دون إثباتها له عز وجل، واعتبار المفهوم غير مجمع عليه لاسيما مفهوم اللقب فإنه لم يقل به إلا الدقاق وبعض الحنابلة، والسادس ونسب إلى الزمخشري أن لا إله في موضع الخبر وإلا الله في موضع المبتدأ والأصل الله إله فلما أريد قصر الصفة على الموصوف قدم الخبر وقرن المبتدأ بإلا إذ المقصور عليه هو الذي يلي إلا والمقصور هو الواقع في سياق النفي والمبتدأ إذا قرن بإلا وجب تقديم الخبر عليه كما هو مقرر في موضعه، وفيه تمحل مع أنه يلزم عليه أن يكون الخبر مبنيًا مع لا وهي لا يبني معها إلا المبتدأ وأنه لو كان الأمر كما ذكر لم يكن لنصب الاسم الواقع بعد الأوجه وقد جوزه جماعة في هذا الترتيب وترك كلامهم لواحد إن التزمته لا تجد لك ثانيًا فيه، والسابع أن الاسم المعظم مرفوع بإله كما هو حال المبتدأ إذا كان وصفًا فإن إلهًا بمعنى مألوه من أله إذا عبد فيكون قائمًا مقام الفاعل وسادًا مسد الخبر كما في مضروب العمران.
وتعقب بمنع أن يكون إله وصفًا وإلا لوجب إعرابه وتنوينه ولا قائل به.
ثم إن هذه الكلمة الطيبة يندرج فيها معظم عقائد الايمان لكن المقصود الأهم منا التوحيد ولذا كان المشركون إذا لقنوها أو لا يستكبرون وينفرون.
{وَيَقُولُونَ أَءنَّا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} يعنون بذلك قاتلهم الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جمعوا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة.
ووصفهم الشاعر بالمجنون قيل تخليط وهذيان لأن الشعر يقتضي عقلًا تامًا به تنظم المعاني الغريبة وتصاغ في قوالب الألفاظ البديعة.
وفيه نظر وكم رأينا شعراء ناقصي العقول ومنهم من يزعم أنه لا يحسن شعره حتى يشرب المسكر فيسكر ثم يقول، نعم كل من الوصفين هذيان في حقه صلى الله عليه وسلم.
{بَلْ جَاء بالحق وَصَدَّقَ المرسلين} رد عليهم وتكذيب لهم ببيان إن ما جاء به عليه الصلاة والسلام من التوحيد هو الحق الثابت الذي قام عليه البرهان وأجمع عليه كافة المرسلين فأين الشعر والجنون من ساحته صلى الله عليه وسلم الرفيعة الشأن.
وقرأ عبد الله {وَصَدَقَ} بتخفيف الدال {المرسلون} بالواو رفعًا أي وصدق المرسلون في التبشير به وفي أنه يأتي آخرهم.
{إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)}.
{إِنَّكُمْ} بما فعلتم من الإشراك وتكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام والاستكبار {يَرَوُاْ العذاب الاليم} والالتفات لإظهار كمال الغضب عليهم بمشافهتهم بهذا الوعيد وعدم الاكتراب بهم وهو اللائق بالمستكبرين.
وقرأ أبو السماء وأبان رواية عن عاصم {يَرَوْنَ العذاب} بالنصب على أن حذف النون للتخفيف كما حذف التنوين لذلك في قول أبي الأسود:
فالفيته غير مستعتب ** ولا ذاكر الله إلا قليلا

بجر ذاكر بلا تنوين ونصب الاسم الجليل.
وهذا الحذف قليل في غير ما كان صلة لأل.
أما فيما كان صلة لها فكثير الورود لاستطالة الصلة الداعية للتخفيف نحو قوله:
الحافظو عورة العشيرة لا ** يأتيهم من ورائهم نطف

ونقل ابن عطية عن أبي السمال أنه قرأ {لذائق} بالأفراد والتنوين {يَرَوْنَ العذاب} بالنصب، وخرج الأفراد على أن التقدير لجمع ذائق، وقيل: على تقدير إن جمعكم لذائق.
وقرىء {لَذَائِقُونَ} بالنون {العذاب} بالنصب على الأصل.
{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي الأجزاء ما كنتم تعملونه من السيآت أو إلا بما كنتم تعملونه منها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)}.
عطف على {مستسلمون} [الصافات 26] أي استسلموا وعاد بعضهم على بعض باللائمة والمتسائلون: المتقاولون وهم زعماء أهل الشرك ودهماؤهم كما تبينه حكاية تحاورهم من قوله: {وما كان لنا عليكم من سُلطانٍ} وقوله: {فأغْوَيْناكُم}. إلخ.
وعبر عن إقبالهم بصيغة المضي وهو مما سيقع في القيامة، تنبيهًا على تحقيق وقوعه لأن لذلك مزيد تأثير في تحذير زعمائهم من التغرير بهم، وتحذيرِ دهمائهم من الاغترار بتغريرهم، مع أن قرينة الاستقبال ظاهرة من السياق من قوله: {فإذا هم يَنظُرُون} [الصافات 19] الآية.
والإِقبال: المجيء من جهة قُبُل الشيء، أي من جهة وجهه وهو مجيء المتجاهر بمجيئه غير المتختّل الخائف.
واستعير هنا للقصد بالكلام والاهتمام به كأنه جاءه من مكان آخر.
فحاصل المعنى حكاية عتاب ولوم توجه به الذين اتبعوا على قادتهم وزعمائهم، ودلالةُ التركيب عليه أن يكون الإِتيان أطلق على الدعاية والخطابة فيهم لأن الإِتيان يتضمن القصد دون إرادة مجيء، كقول النابغة:
آتاك امرؤ مسْتبطن لي بِغضَة

وقد تقدم استعماله واستعمال مرادفه وهو المجيء معًا في قوله تعالى: {قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتَيْناكَ بالحَقّ} الآية في سورة [الحجر: 63- 64].
أو أن يكون اليمين مرادًا به جهة الخير لأن العرب تضيف الخير إلى جهة اليمين.
وقد اشتقت من اليُمن وهو البركة، وهي مؤذنة بالفوز بالمطلوب عندهم.
وعلى ذلك جرت عقائدهم في زجر الطير والوحش من التيمّن بالسانح، وهو الوارد من جهة يمين السائر، والتشاؤم، أي ترقب ورود الشر من جهة الشِمال.
وكان حقّ فعل {تأتُوننا} أن يعدّى إلى جهة اليمين بحرف {مِن} فلما عُدّي بحرف {عن} الذي هو للمجاوزة تعين تضمين {تأتُونَنا} معنى {تصدوننا} ليُلائم معنى المجاوزة، أي تأتوننا صادِّيننا عن اليمين، أي عن الخير.
فهذا وجه تفسير الآية الذي اعتمده ابن عطية والزمخشري وقد اضطرب كثير في تفسيرها.
قال ابن عطية ما خلاصته: اضطرب المتأولون في معنى قولهم: {عَننِ اليمين} فعبر عنه ابن زيد وغيره بطريق الجنة ونحو هذا من العبارات التي هي تفسير بالمعنى ولا تختص بنفس اللفظة، وبعضهم أيضًا نحا في تفسيره إلى ما يخص اللفظة فتحصل من ذلك معان منها: أن يريد باليمين القوة والشدة قلتُ وهو عن ابن عباس والفرّاء فكأنهم قالوا إنكم كنتم تُغْروننا بقوة منكم، ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا: تأتوننا من الجهة التي يحسنها تمويهكم وإغواؤكم وتُظهرون فيها أنها جهة الرشد وهو عن الزجاج والجبّائي ومما تحتمله الآية أن يريدوا: إنكم كنتم تأتوننا، أي تقطعون بنا عن أخبار الخير واليُمْن، فعبروا عنها باليمين، ومن المعاني أن يريدوا: أنكم تجيئون من جهة الشهوات وعدم النظر لأن جهة يمين الإِنسان فيها كبده وجهة شماله فيها قلبه وأن نظر الإِنسان في قلبه وقيل: تحلفون لنا ا.
ه.
وجواب الزعماء بقولهم: {بَل لَمْ تَكُونوا مؤمِنينَ} إضراب إبطال لزعم الأتباع أنهم الذين صدّوهم عن طريق الخير أي بل هم لم يكونوا ممن يقبل الإِيمان لأن تسليط النفي على فعل الكون دون أن يقال: بل لم تؤمنوا، مشعر بأن الإِيمان لم يكن من شأنهم، أي بل كنتم أنتم الآبين قبول الإِيمان.
و{ما كان لنا عليكم من سلطان} أي من قهر وغلبة حتى نُكرهكم على رفض الإِيمان، ولذلك أكدوا هذا المعنى بقولهم: {بل كنتم قومًا طاغِينَ} أي كان الطغيان وهو التكبر عن قبول دعوة رجل منكم شأنَكم وسجيتكم، فلذلك أقحموا لفظ {قومًا} بين {كان} وخبرها لأن استحضارهم بعنوان القومية في الطغيان يؤذن بأن الطغيان من مقومات قوميتهم كما قدمنا عند قوله تعالى: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة [البقرة: 164].
وفرّعوا على كلامهم اعترافهم بأنهم جميعًا استحقُّوا العذاب فقولهم: {فحَقَّ علينا قولُ ربنا إنَّا لذائِقُونَ} تفريعَ الاعتراض، أي كان أمر ربنا بإذاقتنا عذاب جهنم حقًّا.
وفعل {حقّ} بمعنى ثبت.
وجملة {إنَّا لذائقون} بيان ل {قَوْلُ رَبِّنا} وحكي القول بالمعنى على طريقة الالتفات ولولا الالتفات لقال: إنكم لذائقون أو إنهم لَذَائِقُونَ.
ونكتة الالتفات زيادة التنصيص على المعنيّ بذوق العذاب.
وحذف مفعول {ذائقون} لدلالة المقام عليه وهو الأمر بقوله تعالى: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} [الصافات 23].
وفرعوا على مضمون ردهم عليهم من قولهم: {بل لم تكونوا مؤمنين} إلى {قومًا طاغِينَ} قولهم: {فأغْوَيْناكُمْ} أي ما أكرهناكم على الشرك ولكنّا وجدناكم متمسكين به وراغبين فيه فأغويناكم، أي فأيدناكم في غوايتكم لأنّا كنّا غاوين فسوّلنا لكم ما اخترناه لأنفسنا فموقع جملة {إنَّا كُنَّا غاوِينَ} موقع العلة.
و{إن} مغنية غناء لام التعليل وفاء التفريع كما ذكرناه غير مرة.
وزيادة {كنّا} للدلالة على تمكين الغواية من نفوسهم، وقد استبان لهم أن ما كانوا عليه غواية فأقرّوا بها، وقد قدمنا عند قوله تعالى في سورة [المؤمنين: 101]: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون} أن تساؤلهم المنفي هنالك هو طلب بعضهم مِن بعض النجدة والنصرة وأن تساؤلهم هنا تساؤل عن أسباب ورطتهم فلا تعارض بين الآيتين.
{فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)}.
هذا الكلام من الله تعالى موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويشبه أن يكون اعتراضًا بين حكاية حِوار الله أهل الشرك في القيامة وبين توبيخ الله إياهم بقوله: {إنَّكم لذائِقُوا العذَاببِ الأليمِ} [الصافات 38].
والفاء للفصيحة لأنها وردت بعد تقرير أحوال وكان ما بعد الفاء نتيجة لتلك الأحوال فكانت الفاء مفصحة عن شرط مقدّر، أي إذا كان حالهم كما سمعتم فإنهم يوم القيامة في العذاب مشتركون لاشتراكهم في الشرك وتمالئهم، أي لا عذر للكلام للفريقين لا للزعماء بتسويلهم ولا للدهماء بنصرهم.
وقد يكون عذاب الدعاة المغوين أشدّ من عذاب الآخرين وذلك لا ينافي الاشتراك في جنس العذاب كما دلت عليه أدلة أخرى، لأن المقصود هنا بيان عدم إجداء معذرة كلا الفريقين وتنصّله.
وهذه الجملة معترضة بين جمل حكاية موقفهم في الحساب.
وجملة {إنَّا كذلك نفعل بالمجرمين} تعليل لما اقتضته جملة {فإنَّهم يومئذٍ في العذاب مشتركون} أي فإن جزاء المجرمين يكون مثل ذلك الجزاء في مؤاخذة التابع المتبوع.